نحو تحالف تركي روسي جديد

ما يجعل القمة الروسية التركية الأخيرة، في مدينة سوشي، مختلفة عن سابقاتها أنها اقتصرت على الرئيسين، فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، ولم تكن هناك وفود مرافقة لهما، خلال اجتماعهما الذي دام قرابة 3 ساعات. كما أن التغطية الإعلامية كانت قبل المباحثات وليس بعدها، مثلما جرت العادة، مما يوحي أن اللقاء كان عبارة عن جلسة عصف ذهني بين الزعيمين سيكون له ما بعده.
والأهم أنه يبدو أن القضايا الإستراتيجية التي تجمع بين بوتين وأردوغان هي أكثر من تلك القضايا الخلافية بينهما.
فقد ظهر هذا واضحاً من الرسائل التي بعثا بها معاً إلى واشنطن، والتي يُفهم منها أنهما يسيران ببلديهما نحو تشكيل حلف جديد يملأ الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة، في الشرق الأوسط، عندما تستكمل إنسحابها من المنطقة، كي تتجه نحو جنوب شرق آسيا لمواجهة الصين هناك.

تعاون تتخلله خلافات

في حديثه المفتوح بحضور أردوغان قبيل اللقاء، وصف بوتين المحادثات مع الجانب التركي أنها ليست سهلة في أغلب الأحيان، نظراً لإختلاف وجهات النظر بين الدولتين. لكنه قال إن الطرفين يتوصلان دائماً في نهاية المطاف إلى صيغة مرضية لهما.
وأشار إلى المجالات التي يتفق عليها الجانبان ومنها التعاون على الصعيد الدولي.
فقال إن الطرفين يسعيان للتوصل إلى حل للأزمة السورية، وينسقان مواقفهما في ليبيا، ويحافظان على تثبيت وقف إطلاق النار في إقليم كارباخ، بين أذربيجان وأرمينيا. هذا بالإضافة إلى عدد كبير من المسائل الدولية، ربما أبرزها مطالبتهما الولايات المتحدة أن تسحب قواتها من سوريا.

التعاون الاقتصادي

أما في مجال التعاون الاقتصادي، فقال إن حجم الاستثمارات الروسية في تركيا بلغ 6.5 مليار دولار، مقابل 1.5 مليار دولار استثمارات تركية في روسيا.
وأشار إلى أن التبادل التجاري بين البلدين قد ارتفع هذا العام 2021 بنسبة 50 في المئة. كما أشار إلى بعض المشاريع العملاقة بينهما التي يجري تنفيذها حالياً، مثل خط نقل الغاز  من روسيا إلى أوروبا عبر تركيا، المسمى (ترك ستريم)، وإنشاء محطة (أكويو) النووية لتوليد الكهرباء، الذي تنفذه روسيا، في مدينة مرسين التركية.
أما أردوغان فأشار من جانبه إلى التطور الذي تشهده العلاقات بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية.
وأشار إلى المحطة النووية لانتاج الطاقة الكهربائية وقال إن البلدين يدرسان إنشاء محطتين نوويتين إضافيتين. وتحدث عن رفع التبادل التجاري مع روسيا إلى 100 مليار دولار سنوياً، وهو الأمر الذي يراه المراقبون في إطار (تنازلات أو إغراءات) يقدمها أردوغان إلى بوتين من أجل التوصل إلى توافق في الآراء مع الجانب الروسي في ملفات اخرى.
وهذا يُعدُ من باب استثمار الاقتصاد لتحقيق مآرب سياسية كما تفعل الدول الكبرى.

استثناء واشنطن من الحل في سوريا

وفي رسالة واضحة إلى واشنطن، طمأن أردوغان روسيا أن تركيا لن تتراجع عن صفقة صواريخ اس 400، التي تعارضها الولايات المتحدة. ولما تحدث عن الملف السوري استثنى الرئيس التركي أي دور للولايات المتحدة في الحل النهائي للأزمة السورية، حيث قال إن السلام مرهونٌ بالعلاقات التركية الروسية، وإن الدولتين تسعيان لإيجاد حل (دائم ونهائي ومستدام)، دون الإشارة إلى أي دور أمريكي محتمل.
وأضاف أردوغان أنه اتفق مع نظيره الروسي على التوصل إلى حل للتصعيد الجاري في محافظة إدلب السورية.

رسائل متعددة

الإصرار على المضي قُدماً في صفقة صوارخ اس 400، والتصريح أنه لا دور للولايات المتحدة في الحل النهائي للأزمة السورية، والضغط بإتجاه تعجيل سحب  القوات الأمريكية من سوريا، يبدو أنها رسائل تركية روسية مشتركة إلى واشنطن. وربما تجيء في وقت يقال فيه أن أنقرة تستعد لتوجيه ضربة عسكرية قاصمة لحزب العمال الكردستاني PKK، تؤدي إلى القضاء عليه أو تحجيم دوره في مشاغلة تركيا.
كما يقال أن أردوغان قد أطلع بوتين مسبقاً، في قمة سوتشي، على هذه العملية على أمل أن تغض موسكو الطرف عنها، خدمة لمصالحهما المشتركة، وعلى اعتبار أن ذلك سيساعد الطرفين على التوصل إلى تفاهمات أكثر في الملفات الأخرى، وخاصة الملف السوري.
ويتضح أن مجموع هذه النقاط تشكل موقفاً تركياً روسياً موحداً، قد يرقى إلى مستوى تحالفٍ جديدٍ يقف في وجه واشنطن، في ظرف تستعد فيه لإستكمال سحب قواتها من الشرق الأوسط.

التداول على زعامة العالم

بالتأكيد أن هذا التفاهم التركي الروسي المشترك، الذي يمكن أن يتحول إلى تحالف دولي مهم، لا يُعجب واشنطن التي تسعى دائماً إلى تثبيت الانقسامات في العالم، وتفكيك التحالفات البينية، كما حصل في أوروبا، حتى لا تتشكل كتل قوية تنافسها على الساحة الدولية، فتظل هي الأولى المنفردة بالقيادة.
فكما قامت أمريكا باستثناء تركيا، ورفضت أن تستقبل رئيسها خلال تواجده في الأمم المتحدة، جاءها الرد بالمقابل ليس من تركيا وحدها، بل من تركيا وروسيا معاً، أن تم استثناؤها من أي دور في حل الأزمة السورية. فهل نشهد إنقلاباً في السياسة الدولية للتداول على قيادة العالم؟

0 ردود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *